صراعات إسرائيلية داخلية- مستقبل الدولة في مهب التحولات اليمينية.

المؤلف: د. أحمد أبو الهيجاء10.20.2025
صراعات إسرائيلية داخلية- مستقبل الدولة في مهب التحولات اليمينية.

لا يمكن إدراك كُنه الحرب الراهنة دون استيعاب عميق للتغيرات الداخلية في إسرائيل. فالعديد من التحليلات المتعلقة بالحرب الشرسة في غزة والنزيف المستمر في الضفة الغربية غالبًا ما تنطلق من تصورات قاصرة. أبسط هذه التصورات هو القول بأن تردد إسرائيل في إنهاء الحرب يعود لخوف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو من الملاحقة القضائية بتهم الفساد. والأكثر إثارة للسخرية هو الادعاء بأن نتنياهو أسير لوزيرين متطرفين هما بن غفير وسموتريتش.

انقسام مستحكم

لا يمكن تجاهل التباينات والاختلافات داخل الحزب الواحد، فما بالك بتحالف من أحزاب وبرامج متباينة وملتزمة بقواعدها الانتخابية. لكن ما نراه من محاولات لرسم نهاية هذا الصراع لا ينفصل عن الصراع المحتدم بين "إسرائيل الأولى" و"إسرائيل الثانية"، وهو انقسام عميق الجذور تجاوز مرحلة الحل.

حتى لو انتهت الحرب في غزة وسقطت حكومة نتنياهو الحالية وتوجه المجتمع الإسرائيلي لانتخابات مبكرة، فإن هذه الانتخابات لن تحل مشكلات المجتمع، بل ستكون امتدادًا لأربع انتخابات سابقة سعت لحسم هذا الانقسام، لكنها جميعًا عمقت هذا الشرخ. وبالتالي، فإن التوازنات السياسية الحالية ستستمر إلى أجل غير مسمى.

تمثل "إسرائيل الأولى" الدولة العميقة، وتشمل الجيش، والأمن، والمحكمة العليا، وبعض الأجهزة البيروقراطية مثل النيابة. بينما تتكون "إسرائيل الثانية" من اليمين السياسي والديني بقيادة نتنياهو كرمز للتيار، ويتجسد هذا التيار في اليمين الأيديولوجي.

إخضاع الدولة العميقة

الوضع في إسرائيل بالغ التعقيد بسبب الصراع بين الطرفين. بعد السابع من أكتوبر، نجح تيار "إسرائيل الأولى" في فرض سيطرته وإضعاف اليمين السياسي، لكن سرعان ما استعاد اليمين الأيديولوجي قوته، وبدأ في توجيه ضربات قوية للدولة العميقة.

عمل نتنياهو والتيار الذي يمثله على إعادة تشكيل المجتمع الإسرائيلي على مدى العقدين الماضيين، واقتحام مؤسسات الدولة العميقة والسيطرة عليها. لقد تفوق نتنياهو في إضعاف مؤسسة الجيش، وتغيير ولاءاتها، وتقليل تأثيرها في الحياة السياسية، وكذلك إضعاف الموالين للجيش داخل الأجهزة الأمنية الأخرى. تجدر الإشارة إلى أن إسرائيل دولة تقوم على قوة الجيش. ومما لا شك فيه، أنه بعد نهاية هذه الحرب، سيكون ملف تعامل اليمين مع الجيش أحد المواضيع الشائكة في إسرائيل.

كما عمل التيار الديني الصهيوني، الذي يعتبر مستوطنو الضفة والقدس قاعدته الشعبية، على اختراق الجيش على مدى العقدين الماضيين، وعمل تدريجيًا على تحييد القيادات العلمانية التقليدية. بدأ هذا التحول داخل المؤسسة العسكرية بعد عام 2000؛ فخلال الانتفاضة الثانية، كانت السيطرة في الجيش للنخبة القديمة، لكن بعد ذلك بدأ التحول الجذري من ثقافة "الكيبوتس" إلى القومية الدينية، مما أدى لانتهاء ثقافة "الكيبوتس" التي قامت عليها إسرائيل بعد فقدان السيطرة على هذا التحول.

يكفي أن نشير إلى أن قائد المنطقة الوسطى في جيش الاحتلال حاليًا هو مستوطن من الضفة الغربية، ومن بين ست فرق تقاتل حاليًا في غزة، فإن قادة خمس منها ينتمون للتيار الديني في مستوطنات الضفة، وجميعهم خريجو مدرسة "عيلي" الدينية الاستيطانية التي تعتبر رمز التطرف في إسرائيل، ويطلق عليها مدرسة "السم" لشدة تشددها.

هذا يعني أن هؤلاء القادة، بعد انتهاء الحرب على غزة، ومع مرور الوقت، سيصلون إلى هيئة الأركان على حساب القيادة العلمانية التقليدية للجيش.

لذلك، وفي سياق هذه التحولات داخل الجيش والمؤسسة الأمنية الإسرائيلية لصالح اليمين الأيديولوجي، يمكن فهم الهجوم والتسريبات الصحفية المستمرة من محيط نتنياهو، ومن نتنياهو شخصيًا بشكل غير مباشر، ومن قادة اليمين الديني بشكل أكثر وضوحًا ضد الجيش والأمن، واتهامهم المستمر بالمسؤولية عن الإخفاق في السابع من أكتوبر، وكذلك تحميلهم مسؤولية الفشل في إدارة الحرب على غزة، وكأن معركة تصفية الحسابات مع الجيش والأجهزة الأمنية مستمرة حتى في خضم الحرب.

أداء باهت

في هذا الإطار، يمكن فهم الجدل الأخير مع الأجهزة الأمنية الأخرى، مثل الشاباك والموساد والشرطة. اليمين الديني كان أكثر نجاحًا في اختراق جهاز الشرطة مقارنة بالشاباك والموساد اللذين حافظا على ولائهما للدولة العميقة في "إسرائيل الأولى" أكثر من باقي الأجهزة الأمنية.

وهذا يفسر الهجوم المستمر من قبل بن غفير على الشاباك واتهامه بمحاولة إقصائه، والخلاف حول ملف السجون، حتى وصل الأمر ببن غفير لاتّهام الشاباك بالسعي لاغتياله سياسيًا، وليس جسديًا.

من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن هذه الحرب الكلامية من بن غفير وما يفعله ضد رئيس أركان الجيش الإسرائيلي يتم بإيعاز مباشر من بنيامين نتنياهو من وراء الستار، كما يفعل مع ميري ريغيف في الهجوم المستمر على رئاسة الأركان في الجيش الإسرائيلي.

يجدر التنويه هنا إلى أن صورة الجيش الإسرائيلي اهتزت بشدة بعد السابع من أكتوبر داخل المجتمع الإسرائيلي، وأيضًا نتيجة أدائه المتواضع في الحرب على غزة وعجزه عن تحقيق نصر واضح من وجهة نظر جمهوره. لم يعد الجيش يتلقى الضربات فقط من جبهتي غزة ولبنان اللتين كشفتا عن نقاط ضعفه وقدراته المبالغ فيها على مدى عقود، بل يتلقى الضربات أيضًا من اليمين الديني في الداخل.

هذا يعتبر تحولًا ملحوظًا في قراءة مستقبل إسرائيل كدولة قامت شرعيتها وبني بقاؤها على صورة الجيش الذي لا يقهر. وهي صورة من الصعب استعادتها.

لقد انخرط المجتمع الإسرائيلي في صراع لم تعد الانتخابات قادرة على حسمه، ويترافق ذلك مع حقيقة أن الصهيونية الدينية على وشك قيادة الجيش في إسرائيل، كما تشكل تيار داخل الصهيونية الدينية توغل وأصبح على علاقة وثيقة بالمتدينين التقليديين المعروفين باسم "الحريديم"، ويطلق على هذا التيار المستجد في إسرائيل "الحردليم".

الجدير بالذكر أن المتدينين التقليديين "الحريديم" يرفضون الانضمام إلى الجيش منذ قيام دولة إسرائيل، ويعتبرون أنفسهم "حراس التوراة" المتفرغين للعبادة، فيما تسعى الدولة العميقة، خاصة بعد الخسائر الفادحة جراء استنزاف الحرب، إلى فرض التجنيد على هذه الفئة التي كانت أقلية عند قيام إسرائيل، وأصبحت شريحة واسعة اليوم. بينما يطمح تيار "الحردليم" المتنامي إلى السيطرة على الجيش، وتطهيره من القيادة العلمانية.

لا يعتبر بنيامين نتنياهو متصالحًا فقط مع هذا التيار اليميني الديني، بل هو جزء أصيل من قيادته، ومتوافق مع توجهاتهم الإستراتيجية، بمعنى أن صناعة التطرف هي بضاعته قبل أن تكون مفروضة عليه بتحالفات معينة؛ لأن المسألة أعمق بكثير من مجرد تحالف حكومي.

يقول الخبراء في إسرائيل، إذا أردت أن تعرف بماذا يفكر بنيامين نتنياهو، فعليك الاستماع إلى ما يقوله مائير بن شبات، رئيس معهد الإستراتيجية الصهيونية والأمن القومي ومستشار الأمن القومي والرئيس السابق لمجلس الأمن القومي في إسرائيل.

ويعتبر وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، رئيس الحزب الديني القومي "الصهيونية الدينية" في هذه المعادلة مجرد قمة جبل الجليد لهذا التيار، وشخصية ثانوية مقارنة ببن شبات ومن يرسمون توجهات هذا التيار في معهد مسجاف ومنتدى كوهيليت والحاخامية الدينية التي تقف خلفه.

مسعى جماعي منسق

لا يمكن أيضًا فصل تنامي "إسرائيل الثانية"، ممثلة بهذا التيار، على مرأى ومسمع من "إسرائيل الأولى"، دون الربط المباشر بينهما وبين الامتدادات في الولايات المتحدة الأميركية. هذه التيارات هي امتداد لتيارات مسيحية صهيونية داخل الولايات المتحدة، سواء داخل الديمقراطيين، وهم الأقرب لـ "إسرائيل الأولى" والدولة العميقة، أو داخل الجمهوريين المتحالفين مع اليمين الديني الذي يمثل "إسرائيل الثانية". وبين هذا وذاك، توجد تيارات وجماعات ضغط اقتصادية ودينية وسياسية متداخلة، وقوة أي طرف في المجتمع الأميركي تنعكس مباشرة على قوة الطرف المقابل له في إسرائيل.

إنه جهد جماعي منظم يمثله نتنياهو وله عقل إستراتيجي، ولفهم توجهاته، خاصة تجاه الفلسطينيين والمنطقة العربية، لا بد من التدقيق في قراءة منظّريه ومنهم مائير بن شبات.

إن استمرار توغل اليمين الديني بكافة أذرعه داخل أجهزة الدولة في إسرائيل، وفي حال تصاعد هذه السيطرة، قد يؤدي مع مرور الزمن إلى هجرة العقول ورأس المال في إسرائيل، حيث إن كثيرين منهم علمانيون "أشكناز" (يهود غربيون وغالبيتهم مزدوجو الجنسية) يقطنون منطقة تل أبيب والمركز.

بدأت هذه الهجرة المعاكسة تزداد بعد السابع من أكتوبر، وغالبية المهاجرين من العلمانيين. ومن المفارقات هنا أن مخططات هندسة المجتمع لدى الفلسطينيين من قبل الدوائر الصهيونية وفرض بعضها بالقوة بهدف الإخضاع، تجري حركات مشابهة لها في المجتمع الإسرائيلي، ولكن بدون تدخل خارجي.

يمكن أيضًا فهم بعض التوجهات الجزئية نحو القضايا المرتبطة بالحرب من هذا المنظور، فمثلًا عدم منح تيار اليمين الديني أهمية لمسألة الأسرى في قطاع غزة، نابع من أن غالبية الأسرى هم من سكان الكيبوتسات والقرى الجنوبية القريبة من غزة، وهم ليسوا في غالبيتهم من أعضاء الصهيونية الدينية التي تتمركز في الضفة الغربية والقدس بشكل رئيسي، بمعنى أن الأسرى الإسرائيليين في غزة لو كانوا من مستوطني الضفة أو منطقة المركز لكان التعامل مختلفًا في رغبة هذا التيار في إنجاز الصفقة. نؤكد أن هذا عامل من عوامل عديدة وليس حاسمًا، لكن لا يمكن إغفاله.

الاستئثار التام بالصراع

هذا يعني أن الزمن الذي يشعر فيه الإسرائيلي بأن إسرائيل دولة لجميع مواطنيها قد ولى، وبات على فئات عديدة التعايش مع ترتيبات وتركيبات اجتماعية مستجدة ومتنامية ممزوجة بأشكال مختلفة من التطرف الديني والعنصرية الداخلية قبل أن تكون عنصرية أكثر تجذرًا تجاه الآخر غير اليهودي.

أما فيما يتعلق بالعلاقة مع الفلسطينيين، وبعد كل هذا الشرح، فإن تيار اليمين الديني الذي يقود الحكومة الحالية لم يعد من أولوياته السلام مع العرب أو حتى التطبيع الذي كان يروج له من خلال نجاحه قبل السابع من أكتوبر في تجاوز حقوق الفلسطينيين كشرط للتطبيع مع العرب. فقد باتت أولويته بعد السابع من أكتوبر فقط هي الانتصار والهيمنة العسكرية الكاملة طريقًا لتعزيز الردع، وهذا ما تجلى في مؤتمراتهم التي عقدوها مؤخرًا.

يؤمن هذا التيار بإعادة تشكيل إسرائيل ديموغرافيًا، ويسعى لرسم خارطة هذا التغيير بالقوة، ويؤمن بحتمية تهجير الفلسطينيين بمكوناتهم الثلاثة: قطاع غزة، الضفة الغربية، وفلسطينيي 1948، ويعبر عن ذلك بوضوح تام. ولكن دول العالم لا تريد أن تسمع ذلك وتتجاهله؛ لكي لا تكون أمام استحقاقات تفرض عليها التزامات لا تريدها.

وبينما تعتبر أولوية الدولة العميقة منع تحول إسرائيل لدولة ثنائية القومية، وتجنب تصنيف المجتمع الدولي لها مع مرور الزمن كدولة فصل عنصري والتورط في تبعات "الأبارتهايد"، يعتبر التيار اليميني الديني أن الحل لذلك بسيط وهو تهجير الفلسطينيين من أراضيهم.

يرى تيار الدولة العميقة أن سلوك التيار اليميني الديني (إسرائيل الثانية) سيورط إسرائيل ويحولها لدولة فصل عنصري، مما يجعل انهيار إسرائيل وإزالتها من الوجود أسرع، والوقوع في فخ حقوق متساوية للجميع مع مرور الزمن؛ لأن الولايات المتحدة الأميركية، ومهما كان دعمها لإسرائيل، فإن للتطرف حدودًا، والإفراط فيه سيصعب مهمة حماية إسرائيل بالنسبة لها، خاصة في مسائل الفصل العنصري.

هذا يعتبر جزءًا مهمًا من رؤية الطرفين للصراع وإن كانا متفقين على عدم منح الفلسطينيين دولة. كما أن الأمور أصبحت أكثر تعقيدًا بعد السابع من أكتوبر وتداعيات الفشل في الحرب على غزة وتداعياتها على الكيان.

يتوافق تيار "إسرائيل الأولى" ممثل الدولة العميقة مع توجهات الإدارة الأميركية لفصل مصير غزة عن الضفة الغربية، وإعادة تشكيل الخارطة الديمغرافية الفلسطينية بجيوب معزولة، لكنها تحظى بإطار سياسي معترف به عالميًا للخروج من مأزق الفصل العنصري، بينما يسعى التيار الثاني إلى الحسم المطلق للصراع عبر التهجير.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة